الحب عاطفة خفية لا يوجد لها تفسيرا مقنعا ؛ وقد عرفت على أنها ميل وتجاذب اللا إرادي ،ولم يقتصر الحب على مخلوق معين فهو ضرب من أضرب " الجنون" فقد يعشق الإنسان أي شيء في الطبيعة ،وقد عبر عنه الكثير من الشعراء في قصائدهم والأدباء في أعملهم وصوَّروه في ورواياتهم وقصصهم... عشق الجغرافيا بتضاريسها المختلفة ووعورة مسالكها ، وما تسببه من مشاق و ما ينتج عن ذلك من حوادث مؤلمة وجهود مضنية...ولكن حب المكان غريزة في تكوين الإنسان.
نعم نحن سكان السراة نعشق الطريق الذي شهد مصارع عشاق التهور وضحايا الاستهتار في كل منحنى وعلى كل جسر ، ولأنه الخيار الأفضل مقارنة بطرق الموت الأخرى لأنه الأول الذي يختصر المسافة إلى منطقة جيزان الحبيبة وساحل البحر المرجاني التي طالما كان عزيز علينا وصولهما رغم القرب كما قال المعري:
فيا دارها بالحزن إن مزارها *** قريب ولكن دون ذلك أهوال
كما أن الشاحنات والمقطورات الكبيرة لا تسلكه ! إنها العشرة وما أدراك ما العشرة ! مضت عقود من الزمن ونحن نسلك ذاك الطريق بتحويلاته و ترقيعاته... إنه طريق عقبة ضلع التي تربط السراة بتهامة الذي كثر الحديث حوله فزاد تعلق الجميع به ، وكما وصفه مدير فرع النقل في عسير ( بأن عقبة ضلع عجوز ) نعم إنها عجوز عجزت وزارتكم الموقرة عن أنشاء صبيّة مرادفة لها واكتفت بعمليات تجميل متواضعة كحلول مؤقته و(عمل منظر)...ورغم هذا نحترم شيبتها ونكبر شيخوختها ونحفظ لها الود بعد هذا العمر الافتراضي الذي أنتهى وهي في خدمتنا .. نحبها وإن شابت ونقصدها وإن عزت نمشيها ولو بشق الأنفس: متمثلين قول الحارث بن حلزة اليشكري:
فعلقتها شمطاء قد شاب قرنها *** وللناس فيما يعشقون مذاهب
في فترة اغلاق هذا الطريق للصيانة شرق المسافرون وغربوا واستخدموا طرق في عقبات أخرى وقد اختلفت خياراتهم فمنهم من آثر الأقل خطرا وأن طال السفر ومنهم من يبحث عن المختصر وإن شق مسلكه وعظم خطره ، وقد كان توقيت الصيانة غير موفق لأنه الموسم الذي يكثر المسافرون و المترددون على الشاطئ و المشاتي إضافة إلى الموظفين وغيرهم؛ ممن لهم مراجعات للدوائر الحكومية في السراة وتهامة على حد سواء ، وكانت المعاناة شديدة ،تجلى ذلك عند فتح الطريق حيث كانت الفرحة غامرة لما لهذا الطريق من مودة ممتدة بطوله وعرضه وخطورته ،وما يقع عليه من تهورمن البعض وتزاحم مفتعل يعكس ثقافة بعض سالكيه وأخلاقهم ، وسبحان الله طابع العجلة سلوك لا ينفك عن البعض فنراه في جميع وسائل النقل فلا تكاد تلامس عجلات الطائرة المدرج حتى ينتصب واقفا وقد تعلق برف الأمتعة يجذب حقيبته أو ينترها من تحت قدميه محدثا جلبة، و هكذا في البحر على العبارات أنا الأول ، وفي البر وعلى الطرق الخطرة التي لا مجال للسباق عليها يعتدي على حقوق الآخرين و يستحوذ على مسارهم بكل جرأة ويعطل الحركة ،ولكن الجميل في الأمر حيويتهم التي توحي لك بأهمية الوقت لديهم ،وأن مواعيدهم لا تحتمل التأخير....المهم في اليوم التالي من فتح الطريق وقفت على مدخل العقبة ونظرت فوجدت الطريق مفتوح المسارين لا معترض في الطريق ولا منتهِر ،فلم أستطع تحمل المنظر وكدت أن أجهش للبكاء كما أجهش قيس للتوباد قائلا :
وأجهشــت للتوباد حين رأيته *** وهلل للرحمــن حين رآني
وأذريت دمع العين لما رأيته *** ونادى بأعلى صوته ودعاني
يقول المثل ( ما تعرف خيري حتى تجرب غيري ) وقد خرجنا ببعض الفوائد الميدانية من فترة الإغلاق حيث تدرّب أكبر عدد من المشتين والمراجعين على السفر المضاعف ،وقد روضتهم اختناقات الزحام وقسوة الطرق والخطر المحدق عند كل منعطف في العقبات الأخرى ، فسار البعض بهدوء وتؤدة ،كما تحسنت مهارات القيادة لدى المسنين أمثالي ،وعادت لهم الثقة بأنفسهم مع اكتساب بعض مهارات المناورة والمغامرة على الطريق ،وذلك مما دفعني لتجديد رخصة القيادة لعشر سنوات قادمة والأعمار بيد الله والرضا بالموجود والحمد لله .